فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله سبحانه وتعالى: {فانطلقا} أي يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها، فوجدا سفينة فركباها فقال أهل السفينة هؤلاء لصوص، وأمروهما بالخروج فقال صالح السفينة ما هم بلصوص ولكن أرى وجوه الأنبياء.
وروينا عن أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، أي بغير عوض ولا عطاء، فلما لججوا في البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحًا من ألواح السفينة فذلك قوله تعالى: {حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال} يعني موسى له {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا} أي أتيت شيئًا عظيمًا منكرًا».
روي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء وروي أن موسى لما رآى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق.
{قال} العالم وهو الخضر {ألم أقل أنك لن تستطيع معي صبرًا قال} يعني موسى {لا تؤاخذني بما نسيت}.
قال ابن عباس: لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئًا آخر.
وقيل معناه بما تركت من عهدك النيسان الترك وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كانت الأولى من موسى نسيانًا والثانية شرطًا والثالثة عمدًا» {ولا ترهقني} أي لا تغشني {من أمري عسرًا} والمعنى لا تعسر علي متابعتك وسيرها بالأغضاء وترك المناقشة وقيل لا تكلفني مشقة ولا تضيق علي أمري.
{فانطلقا حتى إذا لقيا غلامًا فقتله} في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان فمرا بغلمان، يلعبون فأخذ الخضر غلامًا ظريفًا وضيء الوجه كان وجهه يتوقد حسنًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، وروينا أنه أخذ برأسه فاقتلعه. وروى عبد الرزاق هذا الخبر وفيه أشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه. وروي أن رضخ رأسه بحجر وقيل ضرب رأسه بالجدار فقتله.
قال ابن عباس: كان غلامًا لم يبلغ الحنث ولم يكن نبي الله موسى يقول أقتلت نفسًا زاكية، إلا وهو صبي لم يبلغ الحنث، وقيل: كان رجلًا وقيل كان اسمه حيسور وقيل كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه. وقيل كان غلامًا يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه.
ق عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا» لفظ مسلم {قال} يعني موسى {أقتلت نفسًا زكية} أي لم تذنب قط وقرئ: {زكية} وهي التي أذنبت ثم تابت {بغير نفس} أي لم تقتل نفسًا حتى يجب عليها القتل {لقد جئت شيئًا نكرًا} أي منكرًا عظيمًا، وقيل النكر أعظم من الأمر لأنه حقيقة الهلاك، وفي خرق السفينة خوف الهلاك، وقيل الأمر أعظم لأن فيه تغريق جمع كثير، وقيل معناه لقد جئت شيئًا أنكر من الأول لأن ذاك كان خرقًا يمكن تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه {قال} يعني الخضر {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا} قيل زاد في هذه الآية قوله لك لأنه نقض العهد مرتين، وقيل إن هذه اللفظة توكيد للتوبيخ فعند هذا {قال} موسى {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} قيل إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه، قال موسى إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني، أي فارقني لا تصاحبني {قد بلغت من لدني عذرًا} قال ابن عباس: أي قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقيل معناه اتضح لك العذر في مفارقتي والمعنى أنه مدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرتين أولًا وثانيًا مع قرب المدة.
ق عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله علينا وعلى وموسى وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا فلو صبر لرأى العجب». قوله ذمامة هو بذال معجمة أي حياء وإشفاق من الذم واللوم، يقال ذممته ذمامة لمته ملامة ويشهد له قول الخضر هذا فراق بيني وبينك.
قوله سبحانه وتعالى: {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية} قال ابن عباس: يعني أنطاكية وقيل الأيلة وهي أبعد الأرض من السماء وقيل هي بلدة بالأندلس {استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما} قال أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أتيا أهل قرية لئامًا فطافا في المجلس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما» وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم فلم يضيفوهما.
وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم.
وعن قتادة قال: شر القرى التي لا تضيف الضيف {فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض} أي يسقط وهذا من مجاز الكلام لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها، فاستعير لها النظر كما أستعير للجدار الإرادة.
{فأقامه} أي سواه، وفي حديث أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فقال الخضر بيده هكذا فأقامه» وقال ابن عباس: هدمه وقعد يبنيه.
{قال} يعني موسى {لو شئت لاتخذت عليه أجرًا} يعني على إصلاح الجدار جعلًا والمعنى أنك قد علمت أنا جياع، وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو اتخذت على عملك أجرًا.
{قال} يعني الخضر {هذا فراق بيني وبينك} يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل إن هذا الإنكار على ترك أخذ الأجر هو المفرق بيننا {سأنبئك} أي سوف أخبرك {بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا} وقيل إن موسى أخذ بثوب الخضر وقال أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال الخضر {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر}. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}.
واختلفوا في عود الضمير في قوله تعالى: {ما أشهدتهم} على وجوه:
أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذين اتخذوهم أولياء {خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: {اقتلوا أنفسكم} [النساء].
نفى إحضار إبليس وذريته خلق السماوات والأرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله تعالى: {وما كنت متخذ المضلين} أي: الذين يضلون الناس ووضع الظاهر موضع المضمر إظهارًا لإضلالهم وذمًّا لهم {عضدًا} أي: أعوانًا، وثانيها قال الرازي: وهو الأقوى عندي إن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء من عندك فلا تؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على الاقتراح الفاسد قال: والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات فالأقرب في هذه الآية هو أولئك الكفار وهو قوله تعالى: {بئس للظالمين بدلًا} والمراد بالظالمين أولئك الكفار، وثالثها أن يكون المراد من قوله ما أشهدتهم إلى آخره دون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم اللّه بسعادته والشقي من حكم اللّه بشقاوته في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل فإنه تعالى قال: ما أشهدتهم إلى آخره وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلوّ والكمال ولغيركم بالذل والدناءة بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس مما حكمتم به. ولما قرّر تعالى أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتدوا فيه بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأهوال القيامة فقال: {ويوم} التقدير واذكر لهم يا محمد يوم عطفًا على قوله وإذ قلنا للملائكة {يقول} أي: اللّه يوم القيامة لهؤلاء الكفار تهكمًا بهم وقرأ حمزة بالنون والباقون بالياء {نادوا شركائي} أي: ما عبد من دوني وقيل: إبليس وذرّيته ثم بيّن تعالى أن الإضافة ليست على حقيقتها بل توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذأبي: {فدعوهم} تماديًا في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي: فلم يغيثوهم استهانة بهم واشتغالًا بأنفسهم فضلًا عن أن يعينوهم {وجعلنا بينهم} أي: المشركين والشركاء {موبقًا} أي: واديًا من أودية جهنم يهلكون فيه جميعًا، وهو من وبق بالفتح هلك، نقل ابن كثير عن عبد اللّه بن عمر أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلال، وقال الحسن البصري: عداوة أي: يؤل بهم إلى الهلاك والتلف كقول عمر رضي اللّه تعالى عنه: لا يكون حبك كلفًا ولا بغضك تلفًا أي: لا يكن حبك يجر إلى الكلف ولا بغضك يجر إلى التلف، وقيل: الموبق البرزخ البعيد أي: وجعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخًا بعيدًا يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهم وهم في أعلى الجنان.
ولما قرر سبحانه وتعالى ما لهم مع شركائهم ذكر حالهم في استمرار جهلهم فقال تعالى: {ورأى المجرمون} أي: العريقون في الإجرام {النار} من مكان بعيد {فظنوا} ظنًا {أنهم مواقعوها} أي: مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدّة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا} [الفرقان]. فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامّة يقال لها: مواقعة {ولم} أي: والحال أنهم لم {يجدوا عنها مصرفًا} أي: مكانًا ينصرفون إليه لأن الملائكة تسوقهم إليها والموضع موضع التحقق ولكن ظنهم جريًا على عادتهم في الجهل كما قالوا: اتخذوا اللّه ولدًا بغير علم وما أظن أن تبيد هذه أبدًا وما أظن الساعة قائمة إن نظنّ إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين مع قيام الأدلة التي لا شك فيها، وقيل: الظن هنا بمعنى العلم واليقين.
ولما افتخر هؤلاء الكفار على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبيّن اللّه تعالى الوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبههم باطلة ذكر فيه المثلين المتقدّمين ثم قال بعده:
{ولقد صرّفنا} وأظهر نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم الدال وأدغمها الباقون: {في هذا القرآن} أي: القيم الذي لا عوج فيه مع جمعه للمعاني {للناس} أي: المزلزلين والثابتين وقوله: {من كل مثل} صفة لمحذوف أي: مثلًا من جنس كل مثل ليتعظوا أو أنّا حولنا الكلام وصرّفناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة والأساليب المتناسقة ما صار بها في غرابته كالمثل يقبله كل من سمعه وتضرب به آباط الأبل في سائر البلاد بين العباد فتسر به قلوبهم وتلهج به ألسنتهم فلم يقبلوه ولم يتركوا المجادلة الباطلة كما قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء} يتأتى منه الجدال وميز الأكثرية بقوله تعالى: {جدلًا} أي: خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل: أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن: وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورضي اللّه تعالى عنها ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول اللّه أنفسنا بيد اللّه فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا، وقال ابن عباس أراد النضر بن الحارث وجدًا له في القرآن، وقال الكلبي: أراد به خلفًا الجمحي.
ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى: {وما منع الناس} أي: الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله: {أن يؤمنوا} ليفيد التجديد وذمّهم على الترك {إذ} أي: حين {جاءهم الهدى} أي: القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف على المفعول الثاني معبرًا بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى: {ويستغفروا ربهم} أي: لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة.
ولما كان الاستثناء مفرغًا أتى بالفاعل فقال: {إلا أن} أي: طلب أن {تأتيهم سنة الأوّلين} أي: سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم {أو} طلب أن {يأتيهم العذاب قبلًا} أي: مقابلة وعيانًا وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى اللّه تعالى نبه بقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} بالثواب على أفعال الطاعة {ومنذرين} بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم {ويجادل الذين كفروا} أي: يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا {بالباطل} من قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير اللّه من الأمر شيء {ليدحضوا به} أي: ليبطلوا بجدالهم {الحق} أي: القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم {واتخذوا آياتي} أي: القرآن {وما أنذروا} أي: وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب {هزوا} أي: استهزاء وقرأ حفص بالواو وقفًا ووصلًا وحمزة بالواو ووقفًا لا وصلًا وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضًا النقل.
ولما حكى اللّه تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى: {ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير {ممن ذكر بآيات ربه} أي: المحسن إليه بها وهي القرآن {فأعرض عنها} تاركًا لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر {ونسي ما قدّمت يداه} من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى: {أنا جعلنا على قلوبهم} فجمع رجوعًا إلى أسلوب واتخذوا آياتي لأنه أنص على ذم كل واحد {أكنة} أي: أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئًا من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئًا من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات القرآن فقال: {أن} أي: كراهة أن {يفقهوه} أي: يفهموه {وفي آذانهم وقرًا} أي: ثقلًا فهم لا يسمعون حق السمع ولا يعون حق الوعي {وإن تدعهم} أي: تكرّر دعاءهم كل وقت {إلى الهدى} لتنجيهم بما عندك من الحرص والجد على ذلك {فلن يهتدوا} أي: بسبب دعائك {إذا} أي: إذا دعوتهم {أبدًا} لأن اللّه تعالى حكم عليهم بالضلال فلا يقع منهم إيمان ثم قال تعالى: {وربك} مشيرًا بهذا الاسم إلى ما اقتضاه حال الوصف من الإحسان {الغفور} أي: البليغ المغفرة الذي يستر الذنوب إمّا بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت آخر {ذو الرحمة} أي: الموصوف بالرحمة الذي يعامل وهو قادر مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام، ثم استشهد تعالى على ذلك بقوله تعالى: {لو يؤاخذهم} أي: هؤلاء الذين عادوك وهو عالم أنهم لا يؤمنون أو يعاملهم معاملة المؤاخذة {بما كسبوا} من الذنوب {لعجل لهم العذاب} أي: في الدنيا {بل لهم موعد} وهو إمّا يوم القيامة وإمّا في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح {لن يجدوا من دونه} أي: الموعد {موئلًا} أي: ملجأ ينجيهم منه فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأوّل ظلمهم وآخره وقوله تعالى: {وتلك} مبتدأ وقوله تعالى: {القرى} أي: الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم صفته لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر {أهلكناهم} والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم {لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا} أي: وقتًا معلومًا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي: لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام والباقون بضم الميم وفتح اللام أي: لإهلاكهم، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة} [الكهف].
{وإذ} أي: واذكر لهم حين {قال موسى لفتاه} يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام وإنما قال فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ منه العلم وقيل فتاه عبده، وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي».